فصل: فصل: في أنه لا يلزم القاتل شيء من الدية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


كتاب الديات‏:‏

الأصل في وجوب الدية الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا‏}‏ الآية وأما السنة فروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب لعمرو بن حزم كتابا إلى أهل اليمن‏,‏ فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه‏:‏ ‏(‏وإن في النفس مائة من الإبل‏)‏ رواه النسائي في سننه‏,‏ ومالك في ‏"‏ موطئه ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ وهو كتاب مشهور عند أهل السير ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر‏,‏ في مجيئه في أحاديث كثيرة تأتي في مواضعها من الباب إن شاء الله وأجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة‏.‏

مسألة‏:‏

قال أبو القاسم -رحمه الله-‏:‏ ‏[‏ودية الحر المسلم مائة من الإبل‏]‏

أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل في الدية وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل وقد دلت عليه الأحاديث الواردة منها حديث عمرو بن حزم‏,‏ وحديث عبد الله بن عمر في دية خطأ العمد وحديث ابن مسعود في دية الخطأ وسنذكرها إن شاء الله وظاهر كلام الخرقي أن الأصل في الدية الإبل لا غير وهذا إحدى الروايتين عن أحمد -رحمه الله- ذكر ذلك أبو الخطاب وهو قول طاوس‏,‏ والشافعي وابن المنذر وقال القاضي‏:‏ لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل والذهب والورق والبقر والغنم فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها وهذا قول عمر‏,‏ وعطاء وطاوس وفقهاء المدينة السبعة وبه قال الثوري‏,‏ وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد لأن عمرو بن حزم روى في كتابه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن‏:‏ ‏(‏وأن في النفس المؤمنة مائة من الإبل‏,‏ وعلى أهل الورق ألف دينار‏)‏ رواه النسائي وروى ابن عباس ‏(‏أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ديته اثني عشر ألفا‏)‏ رواه أبو داود وابن ماجه وروى الشعبي‏,‏ أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيبا فقال‏:‏ ألا إن الإبل قد غلت‏:‏ فقوم على أهل الذهب ألف دينار‏,‏ وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاة ألفي شاة‏,‏ وعلى أهل الحلل مائتي حلة رواه أبو داود ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا‏,‏ مائة من الإبل‏)‏ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرق بين دية العمد والخطأ فغلظ بعضها وخفف بعضها‏,‏ ولا يتحقق هذا في غير الإبل ولأنه بدل متلف حقا لآدمي فكان متعينا كعوض الأموال وحديث ابن عباس يحتمل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوجب الورق بدلا عن الإبل‏,‏ والخلاف في كونها أصلا وحديث عمرو بن شعيب يدل على أن الأصل الإبل فإن إيجابه لهذه المذكورات على سبيل التقويم لغلاء الإبل‏,‏ ولو كانت أصولا بنفسها لم يكن إيجابها تقويما للإبل ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك‏,‏ ولا لذكره معنى وقد روي أنه كان يقوم الإبل قبل أن تغلو بثمانية آلاف درهم ولذلك قيل‏:‏ إن دية الذمي أربعة آلاف درهم وديته نصف الدية‏,‏ فكان ذلك أربعة آلاف حين كانت الدية ثمانية آلاف درهم‏.‏

فصل‏:‏

فإذا قلنا هي خمسة أصول فإن قدرها من الذهب ألف مثقال ومن الورق اثنا عشر ألف درهم‏,‏ ومن البقر والحلل مائتان ومن الشاء ألفان ولم يختلف القائلون بهذه الأصول في قدرها من الذهب‏,‏ ولا من سائرها إلا الورق فإن الثوري وأبا حنيفة وصاحبيه قالوا‏:‏ قدرها عشرة آلاف من الورق وحكي ذلك عن ابن شبرمة لما روى الشعبي‏,‏ أن عمر جعل على أهل الورق عشرة آلاف ولأن الدينار معدول في الشرع بعشرة دراهم بدليل أن نصاب الذهب عشرون مثقالا ونصاب الفضة مائتان وبما ذكرناه قال الحسن‏,‏ وعروة ومالك والشافعي في قول وروي ذلك عن عمر‏,‏ وعلي وابن عباس لما ذكرنا من حديث ابن عباس وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه‏,‏ عن جده عن عمر ولأن الدينار معدول باثني عشر درهما‏,‏ بدليل أن عمر فرض الجزية على الغني أربعة دنانير أو ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط دينارين أو أربعة وعشرين درهما‏,‏ وعلى الفقير دينارا أو اثنى عشر درهما وهذا أولى مما ذكروه في نصاب الزكاة ولأنه لا يلزم أن يكون نصاب أحدهما معدولا بنصاب الآخر كما أن السائمة من بهيمة الأنعام ليس نصاب شيء منها معدولا بنصاب غيره قال ابن عبد البر‏:‏ ليس مع من جعل الدية عشرة آلاف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وحديث مسند ولا مرسل‏,‏ وحديث الشعبي عن عمر يخالفه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه‏.‏

فصل‏:‏

وعلى هذا أي شيء أحضره من عليه الدية من القاتل أو العاقلة من هذه الأصول‏,‏ لزم الولي أخذه ولم يكن له المطالبة بغيره سواء كان من أهل ذلك النوع‏,‏ أو لم يكن لأنها أصول في قضاء الواجب يجزئ واحد منها فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه‏,‏ كخصال الكفارة وكشاتي الجبران في الزكاة مع الدراهم وإن قلنا‏:‏ الأصل الإبل خاصة فعليه تسليمها إليه سليمة من العيوب وأيهما أراد العدول عنها إلى غيرها‏,‏ فللآخر منعه لأن الحق متعين فيها فاستحقت كالمثل في المثليات المتلفة وإن أعوزت الإبل‏,‏ ولم توجد إلا بأكثر من ثمن المثل فله العدول إلى ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم وهذا قول الشافعي القديم وقال في الجديد‏:‏ تجب قيمة الإبل‏,‏ بالغة ما بلغت لحديث عمرو بن شعيب عن عمر في تقويم الإبل ولأن ما ضمن بنوع من المال وجبت قيمته‏,‏ كذوات الأمثال ولأن الإبل إذا أجزأت إذا قلت قيمتها ينبغي أن تجزئ وإن كثرت قيمتها‏,‏ كالدنانير إذا غلت أو رخصت وهكذا ينبغي أن نقول إذا غلت الإبل كلها فأما إن كانت الإبل موجودة بثمن مثلها إلا أن هذا لم يجدها‏,‏ لكونها في غير بلده ونحو ذلك فإن عمر قوم الدية من الدراهم اثنى عشر ألفا وألف دينار‏.‏

فصل‏:‏

وظاهر كلام الخرقي‏,‏ أنه لا تعتبر قيمة الإبل بل متى وجدت على الصفة المشروطة وجب أخذها‏,‏ قلت قيمتها أو كثرت وهذا ظاهر مذهب الشافعي وذكر أصحابنا أن ظاهر مذهب أحمد أن تؤخذ مائة‏,‏ قيمة كل بعير منها مائة وعشرون درهما فإن لم يقدر على ذلك أدى اثنى عشر ألف درهم‏,‏ أو ألف دينار لأن عمر قوم الإبل على أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفا فدل على أن ذلك قيمتها‏,‏ ولأن هذه إبدال محل واحد فيجب أن تتساوى في القيمة كالمثل والقيمة في بدل القرض‏,‏ والمتلف في المثليات ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏في النفس المؤمنة مائة من الإبل‏)‏ وهذا مطلق فتقييده يخالف إطلاقه فلم يجز إلا بدليل ولأنها كانت تؤخذ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقيمتها ثمانية آلاف‏,‏ وقول عمر في حديثه‏:‏ إن الإبل قد غلت فقومها على أهل الورق اثنى عشر ألفا دليل على أنها في حال رخصها أقل قيمة من ذلك وقد كانت تؤخذ في عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وصدر من ولاية عمر‏,‏ مع رخصها وقلة قيمتها ونقصها عن مائة وعشرين فإيجاب ذلك فيها خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرق بين دية الخطأ والعمد فغلظ دية العمد‏,‏ وخفف دية الخطأ وأجمع عليه أهل العلم واعتبارها بقيمة واحدة تسوية بينهما‏,‏ وجمع بين ما فرقه الشارع وإزالة للتخفيف والتغليظ جميعا بل هو تغليظ لدية الخطأ لأن اعتبار ابن مخاض بقيمة ثنية أو جذعة‏,‏ يشق جدا فيكون تغليظا للدية في الخطأ وتخفيفا لدية العمد‏,‏ وهذا خلاف ما قصده الشارع وورد به ولأن العادة نقص قيمة بنات المخاض عن قيمة الحقاق والجذعات‏,‏ فلو كانت تؤدى على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بقيمة واحدة ويعتبر ذلك فيها لنقل ولم يجز الإخلال به لأن ما ورد به الشرع مطلقا إنما يحمل على العرف والعادة‏,‏ فإذا أريد به ما يخالف العادة وجب بيانه وإيضاحه لئلا يكون تلبيسا في الشريعة وإيهامهم أن حكم الله خلاف ما هو حكمه على الحقيقة والنبي -صلى الله عليه وسلم- بعث للبيان‏,‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ فكيف يحمل قوله على الإلباس والإلغاز هذا مما لا يحل ثم لو حمل الأمر على ذلك لكان الأسنان عبثا غير مفيد فإن فائدة ذلك إنما هو كون اختلاف أسنانها مظنة اختلاف القيم‏,‏ فأقيم مقامه ولأن الإبل أصل في الدية فلا تعتبر قيمتها بغيرها كالذهب والورق‏,‏ ولأنها أصل في الوجوب فلا تعتبر قيمتها كالإبل في السلم وشاة الجبران‏,‏ وحديث عمرو بن شعيب حجة لنا فإن الإبل كانت تؤخذ قبل أن تغلو ويقومها عمر وقيمتها أقل من اثنى عشر ألفا وقد قيل‏:‏ إن قيمتها كانت ثمانية آلاف ولذلك قال عمر‏:‏ دية الكتابي أربعة آلاف وقولهم‏:‏ إنها أبدال محل واحد فلنا أن نمنع‏,‏ ونقول‏:‏ البدل إنما هو الإبل وغيرها معتبر بها وإن سلمنا فهو منتقض بالذهب والورق‏,‏ فإنه لا يعتبر تساويهما وينتقض أيضا بشاة الجبران مع الدراهم وأما بدل القرض والمتلف فإنما هو المثل خاصة‏,‏ والقيمة بدل عنه ولذلك لا تجب إلا عند العجز عنه بخلاف مسألتنا فإن قيل‏:‏ هذا حجة عليكم لقولكم‏:‏ إن الإبل هي الأصل وغيرها بدل عنها فيجب أن يساويها كالمثل والقيمة قلنا‏:‏ إذا ثبت لنا هذا ينبغي أن يقوم غيرها بها‏,‏ ولا تقوم هي بغيرها لأن البدل يتبع الأصل ولا يتبع الأصل البدل على أنا نقول‏:‏ إنما صير إلى التقدير بهذا لأن عمر‏,‏ رضي الله عنه قومها في وقته بذلك فوجب المصير إليه كيلا يؤدي التنازع والاختلاف في قيمة الإبل الواجبة‏,‏ كما قدر لبن المصراة بصاع من التمر نفيا للتنازع في قيمته فلا يوجب هذا أن يرد الأصل إلى التقويم‏,‏ فيفضي إلى عكس حكمة الشرع ووقوع التنازع في قيمة الإبل مع وجوبها بعينها على أن المعتبر في بدلي القرض مساواة المحل المقرض‏,‏ فاعتبر مساواة كل واحد من بدليه له والدية غير معتبرة بقيمة المتلف ولهذا لا تعتبر صفاته وهكذا قول أصحابنا في تقويم البقر والشاة والحلل يجب أن يكون مبلغ الواجب من كل صنف منها اثنى عشر ألفا فتكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهما‏,‏ وقيمة كل شاة ستة دراهم لتتساوى الأبدال كلها وكل حلة بردتان‏,‏ فيكون أربعمائة برد‏.‏

فصل‏:‏

ولا يقبل في الإبل معيب ولا أعجف ولا يعتبر فيها أن تكون من جنس إبله‏,‏ ولا إبل بلده وقال القاضي وأصحاب الشافعي‏:‏ الواجب عليه من جنس إبله سواء كان القاتل أو العاقلة لأن وجوبها على سبيل المواساة‏,‏ فيجب كونها من جنس مالهم كالزكاة فإذا كان عند بعض العاقلة عراب‏,‏ وعند بعضهم بخاتي أخذ من كل واحد من جنس ما عنده وإن كان عند واحد صنفان‏,‏ ففيه وجهان أحدهما‏:‏ يؤخذ من كل صنف بقسطه والثاني يؤخذ من الأكثر فإن استويا‏,‏ دفع من أيهما شاء فإن دفع من غير إبله خيرا من إبله أو مثلها جاز كما لو أخرج في الزكاة خيرا من الواجب وإن كان أدون‏,‏ لم يقبل إلا أن يرضى المستحق وإن لم يكن له إبل فمن غالب إبل البلد‏,‏ فإن لم يكن في البلد إبل وجب من غالب إبل أقرب البلاد إليه فإن كانت إبله عجافا أو مراضا كلف تحصيل صحاح من جنس ما عنده لأنه بدل متلف‏,‏ فلا تؤخذ فيه معيبة كقيمة الثوب المتلف ونحو هذا قال أصحابنا في البقر والغنم ولنا‏,‏ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏في النفس المؤمنة مائة من الإبل‏)‏ أطلق الإبل فمن قيدها احتاج إلى دليل ولأنها بدل المتلف فلم يختص بجنس ماله‏,‏ كبدل سائر المتلفات ولأنها حق ليس سببه المال فلم يعتبر كونه من جنس ماله كالمسلم فيه والقرض‏,‏ ولأن المقصود بالدية جبر المفوت والجبر لا يختص بجنس مال من وجب عليه وفارق الزكاة فإنها وجبت على سبيل المواساة ليشارك الفقراء الأغنياء فيما أنعم الله تعالى به عليهم‏,‏ فاقتضى كونه من جنس أموالهم وهذا بدل متلف فلا وجه لتخصيصه بماله وقولهم‏:‏ إنها مواساة غير صحيح‏,‏ وإنما وجبت جبرا للفائت كبدل المال المتلف وإنما العاقلة تواسي القاتل فيما وجب بجنايته ولهذا لا يجب من جنس أموالهم إذا لم يكونوا ذوي إبل‏,‏ والواجب بجنايته إبل مطلقة فتواسيه في تحملها ولأنها لو وجبت من جنس مالهم‏,‏ لوجبت المريضة من المراض والصغيرة من الصغار كالزكاة‏.‏

مسألة‏:‏

‏[‏قال‏:‏ وإن كان القتل عمدا‏,‏ فهي في مال القاتل حالة أرباعا خمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون‏,‏ وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة‏]‏

أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة وهذا قضية الأصل‏,‏ وهو أن بدل المتلف يجب على المتلف وأرش الجناية على الجاني‏,‏ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏لا يجني جان إلا على نفسه‏)‏ وقال لبعض أصحابه حين رأى معه ولده‏:‏ ‏"‏ ابنك هذا‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ‏(‏أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه‏)‏ ولأن موجب الجناية أثر فعل الجاني‏,‏ فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها فإنه لو كسب كان كسبه له دون غيره‏,‏ وقد ثبت حكم ذلك في سائر الجنايات والأكساب وإنما خولف هذا الأصل في قتل المعذور فيه لكثرة الواجب‏,‏ وعجز الجاني في الغالب عن تحمله مع وجوب الكفارة عليه وقيام عذره‏,‏ تخفيفا عنه ورفقا به والعامد لا عذر له‏,‏ فلا يستحق التخفيف ولا يوجد فيه المعنى المقتضى للمواساة في الخطأ إذا ثبت هذا فإنها تجب حالة وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة تجب في ثلاث سنين لأنها دية آدمي‏,‏ فكانت مؤجلة كدية شبه العمد ولنا أن ما وجب بالعمد المحض كان حالا‏,‏ كالقصاص وأرش أطراف العبد ولا يشبه شبه العمد لأن القاتل معذور‏,‏ لكونه لم يقصد القتل وإنما أفضى إليه من غير اختيار منه فأشبه الخطأ ولهذا تحمله العاقلة‏,‏ ولأن القصد التخفيف على العاقلة الذين لم تصدر منهم جناية وحملوا أداء مال مواساة فالأرفق بحالهم التخفيف عنهم‏,‏ وهذا موجود في الخطأ وشبه العمد على السواء وأما العمد فإنما يحمله الجاني في غير حال العذر‏,‏ فوجب أن يكون ملحقا ببدل سائر المتلفات ويتصور الخلاف معه فيما إذا قتل ابنه‏,‏ أو قتل أجنبيا وتعذر استيفاء القصاص لعفو بعضهم‏,‏ أو غير ذلك واختلفت الرواية في مقدارها فروى جماعة عن أحمد أنها أرباع كما ذكر الخرقي‏,‏ وهو قول الزهري وربيعة ومالك وسليمان بن يسار وأبي حنيفة وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وروي جماعة عن أحمد‏,‏ أنها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها وبهذا قال عطاء‏,‏ ومحمد بن الحسن والشافعي وروي ذلك عن عمر وزيد وأبي موسى‏,‏ والمغيرة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏,‏ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال إن‏:‏ ‏(‏من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية‏,‏ وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة‏,‏ وما صولحوا عليه فهو لهم‏)‏ وذلك لتشديد القتل رواه الترمذي وقال‏:‏ هو حديث حسن غريب وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏ألا إن في قتيل عمد الخطأ‏,‏ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها‏)‏ رواه الإمام أحمد‏,‏ وأبو داود وغيرهم وعن عمرو بن شعيب أن رجلا يقال له‏:‏ قتادة حذف ابنه بالسيف‏,‏ فقتله فأخذ عمر منه الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة رواه مالك في ‏"‏ موطئه ‏"‏ ووجه الأول ما روى الزهري‏,‏ عن السائب بن يزيد قال‏:‏ كانت الدية على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرباعا خمسا وعشرين جذعة وخمسا وعشرين حقة‏,‏ وخمسا وعشرين بنت لبون وخمسا وعشرين بنت مخاض ولأنه قول ابن مسعود ولأنه حق يتعلق بجنس الحيوان فلا يعتبر فيه الحمل‏,‏ كالزكاة والأضحية‏.‏

فصل‏:‏

والخلفة‏:‏ الحامل وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏في بطونها أولادها‏)‏ تأكيد وقلما تحمل إلا ثنية وهي التي لها خمس سنين ودخلت في السادسة‏,‏ وأي ناقة حملت فهي خلفة تجزئ في الدية وقد قيل‏:‏ لا تجزئ إلا ثنية لأن في بعض ألفاظ الحديث‏:‏ ‏(‏أربعون خلفة‏,‏ ما بين ثنية عامها إلى بازل‏)‏ ولأن سائر أنواع الإبل مقدرة السن فكذلك الخلفة والذي ذكره القاضي هو الأولى لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أطلق الخلفة والخلفة هي الحامل‏,‏ فيقتضي أن تجزئ كل حامل ولو أحضرها خلفة فأسقطت قبل قبضها فعليه بدلها‏,‏ فإن أسقطت بعد قبضها أجزأت لأنه برئ منها بدفعها‏.‏

فصل‏:‏

فإن اختلفا في حملها رجع إلى أهل الخبرة كما يرجع في حمل المرأة إلى القوابل وإن تسلمها الولي‏,‏ ثم قال‏:‏ لم تكن حوامل وقد ضمرت أجوافها فقال الجاني بل قد ولدت عندك نظرت فإن قبضها بقول أهل الخبرة‏,‏ فالقول قول الجاني لأن الظاهر إصابتهم وإن قبضها بغير قولهم فالقول قول الولي لأن الأصل عدم الحمل‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وإن كان القتل شبه عمد فكما وصفت في أسنانها‏,‏ إلا أنها على العاقلة في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها‏]‏

وجملته أن القول في أسنان دية شبه العمد كالقول في دية العمد‏,‏ سواء في اختلاف الروايتين فيها واختلاف العلماء فيها وقد سبق الكلام في ذلك‏,‏ إلا أنها تخالف العمد في أمرين أحدهما أنها على العاقلة في ظاهر المذهب وبه قال الشعبي والنخعي والحكم‏,‏ والشافعي والثوري وإسحاق‏,‏ وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال ابن سيرين والزهري والحارث العكلي وابن شبرمة‏,‏ وقتادة وأبو ثور‏:‏ هي على القاتل في ماله واختاره أبو بكر عبد العزيز لأنها موجب فعل قصده فلم تحمله العاقلة‏,‏ كالعمد المحض ولأنها دية مغلظة فأشبهت دية العمد وهكذا يجب أن يكون مذهب مالك لأن شبه العمد عنده من باب العمد ولنا‏,‏ ما روي أبو هريرة قال‏:‏ اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر‏,‏ فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصا فوجبت ديته على العاقلة كالخطأ‏,‏ ويخالف العمد المحض لأنه يغلظ من كل وجه لقصده الفعل وإرادته القتل‏,‏ وعمد الخطأ يغلظ من وجه وهو قصده الفعل ويخفف من وجه‏,‏ وهو كونه لم يرد القتل فاقتضى تغليظها من وجه وهو الأسنان وتخفيفها من وجه وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها ولا أعلم في أنها تجب مؤجلة خلافا بين أهل العلم وروى ذلك عن عمر‏,‏ وعلى وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وبه قال الشعبي والنخعي‏,‏ وقتادة وأبو هاشم وعبيد الله بن عمر ومالك‏,‏ والشافعي وإسحاق وأبو ثور‏,‏ وابن المنذر وقد حكى عن قوم من الخوارج أنهم قالوا‏:‏ الدية حالة لأنها بدل متلف ولم ينقل إلينا ذلك عن من يعد خلافه خلافا وتخالف الدية سائر المتلفات لأنها تجب على غير الجانى على سبيل المواساة له فاقتضت الحكمة تخفيفها عليهم وقد روى عن عمر‏,‏ وعلى أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعا‏.‏

فصل‏:‏

ويجب في آخر كل حول ثلثها ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ ابتداؤها من حين حكم الحاكم لأنها مدة مختلف فيها‏,‏ فكان ابتداؤها من حين حكم الحاكم كمدة العنة ولنا أنه مال مؤجل فكان ابتداء أجله من حين وجوبه‏,‏ كالدين المؤجل والسلم ولا نسلم الخلاف فيها فإن الخوارج لا يعتد بخلافهم إذا ثبت هذا‏,‏ فإن كان الواجب دية نفس فابتداء حولها من حين الموت سواء كان قتلا موجبا‏,‏ أو عن سراية جرح وإن كان الواجب دية جرح نظرت فإن كان عن جرح اندمل من غير سراية‏,‏ مثل أن قطع يده فبرأت بعد مدة فابتداء المدة من حين القطع لأن تلك حالة الوجوب ولهذا لو قطع يده وهو ذمي‏,‏ فأسلم ثم اندملت وجب نصف دية يهودي وأما إن كان الجرح ساريا‏,‏ مثل أن قطع إصبعه فسرى ذلك إلى كفه ثم اندمل فابتداء المدة من حين الاندمال لأنها إذا سرت‏,‏ فما استقر الأرش إلا عند الاندمال هكذا ذكر القاضي وأصحاب الشافعي وقال‏:‏ أبو الخطاب تعتبر المدة من حين الاندمال فيهما لأن الأرش لا يستقر إلا بالاندمال فيهما‏.‏

فصل‏:‏

وإذا كان الواجب دية فإنها تقسم في ثلاث سنين كل سنة ثلثها‏,‏ سواء كانت دية النفس أو دية الطرف كدية جدع الأنف أو الأذنين أو قطع الذكر أو الأنثيين وإن كان دون الدية نظرنا فإن كان ثلث الدية‏,‏ كدية المأموم أو الجائفة وجب في آخر السنة الأولى ولم يجب منه شيء حالا لأن العاقلة لا تحمل حالا وإن كان نصف الدية أو ثلثها‏,‏ كدية اليد أو دية المنخرين وجب الثلث في آخر السنة الأولى والباقي في آخر السنة الثانية وإن كان أكثر من الثلثين كدية ثمان أصابع‏,‏ وجب الثلثان في السنتين والباقي في آخر الثالثة وإن كان أكثر من دية مثل أن ذهب سمع إنسان وبصره ففي كل سنة ثلث لأن الواجب لو كان دون الدية‏,‏ لم ينقص في السنة عن الثلث فكذلك لا يزيد عليه إذا زاد على الثلث وإن كان الواجب الجناية على اثنين وجب لكل واحد ثلث في كل سنة لأن كل واحد له دية‏,‏ فيستحق ثلثها كما لو انفرد حقه وإن كان الواجب دون ثلث الدية كدية الإصبع‏,‏ لم تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث ويجب حالا لأنه بدل متلف لا تحمله فكان حالا كالجناية على المال‏.‏

فصل‏:‏

وفي الدية الناقصة‏,‏ كدية المرأة والكتابي وجهان أحدهما‏:‏ تقسم في ثلاث سنين لأنها بدل النفس فأشبهت الدية الكاملة والثاني‏,‏ يجب منها في العام الأول قدر ثلث الدية الكاملة وباقيها في العام الثاني لأن هذه تنقص عن الدية فلم تقسم في ثلاث سنين‏,‏ كأرش الطرف وهذا مذهب أبي حنيفة وللشافعي كالوجهين وإن كانت الدية لا تبلغ ثلث الدية الكاملة كدية المجوسي‏,‏ وهو ثمانمائة درهم ودية الجنين وهي خمس من الإبل‏,‏ لم تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث فأشبه دية السن والموضحة إلا أن يقتل الجنين مع أمه‏,‏ فتحمله العاقلة لأنها جناية واحدة وتكون دية الأم على الوجهين فإن قلنا‏:‏ هي في عامين كانت دية الجنين واجبة مع ثلث دية الأم في العام الأول لأنها دية أخرى ويحتمل أن تجب مع باقي دية الأم في العام الثاني وإن قلنا دية الأم في ثلاث سنين فهل يجب دية الجنين في ثلاثة أعوام أو لا‏؟‏ على وجهين فإذا قلنا بوجوبها في ثلاث سنين‏,‏ وجبت في السنين التي وجبت فيها دية الأم لأنهما ديتان لمستحقين فيجب في كل سنة ثلث ديتها وثلث ديته ويحتمل أن تجب في ثلاث سنين أخرى لأن تلفها موجب جناية واحدة‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وإن كان القتل خطأ كان على العاقلة مائة من الإبل‏,‏ تؤخذ في ثلاث سنين أخماسا عشرون بنات مخاض وعشرون بني مخاض‏,‏ وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة‏]‏

لا يختلف المذهب في أن دية الخطأ أخماسا‏,‏ كما ذكر الخرقي وهذا قول ابن مسعود والنخعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري‏,‏ والليث وربيعة ومالك‏,‏ والشافعي‏:‏ هي أخماس إلا أنهم جعلوا مكان بني مخاض بني لبون وهكذا رواه سعيد في ‏"‏ سننه ‏"‏‏,‏ عن النخعي عن ابن مسعود وقال‏:‏ الخطابي روي أن ‏(‏النبي -صلى الله عليه وسلم- ودى الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض‏)‏ وروي عن علي والحسن والشعبي والحارث العكلي وإسحاق‏,‏ أنها أرباع كدية العمد سواء وعن زيد أنها ثلاثون حقة‏,‏ وثلاثون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون بنت مخاض وقال طاوس‏:‏ ثلاثون حقة‏,‏ وثلاثون بنت لبون وثلاثون بنت مخاض وعشرون بني لبون ذكور لما روى عمرو بن شعيب‏,‏ عن أبيه عن جده أن ‏(‏رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى أن من قتل خطأ‏,‏ فديته من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة‏,‏ وعشرة بني لبون ذكور‏)‏ رواه أبو داود وابن ماجه وقال أبو ثور‏:‏ الديات كلها أخماس كدية الخطأ لأنها بدل متلف فلا تختلف بالعمد والخطأ‏,‏ كسائر المتلفات وحكي عنه أن دية العمد مغلظة ودية شبه العمد والخطأ أخماس لأن شبه العمد تحمله العاقلة‏,‏ فكان أخماسا كدية الخطأ ولنا ما روى عبد الله بن مسعود‏,‏ قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض‏,‏ وعشرون بنت لبون وعشرون بني مخاض‏)‏ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ولأن ابن لبون يجب على طريق البدل عن ابنة مخاض في الزكاة إذا لم يجدها‏,‏ فلا يجمع بين البدل والمبدل في واجب ولأن موجبهما واحد فيصير كأنه أوجب أربعين ابنة مخاض ولأن ما قلناه الأقل‏,‏ فالزيادة عليه لا تثبت إلا بتوقيف يجب على من ادعاه الدليل فأما دية قتيل خيبر فلا حجة لهم فيه لأنهم لم يدعوا على أهل خيبر قتله إلا عمدا‏,‏ فتكون ديته دية العمد وهي من أسنان الصدقة والخلاف في دية الخطأ وقول أبي ثور يخالف الآثار المروية التي ذكرناها‏,‏ فلا يعول عليه‏.‏

فصل‏:‏

ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الخطأ على العاقلة قال ابن المنذر‏:‏ أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة وأجمع أهل العلم على القول به وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- دية عمد الخطأ على العاقلة بما قد رويناه من الأحاديث‏,‏ وفيه تنبيه على أن العاقلة تحمل دية الخطأ والمعنى في ذلك أن جنايات الخطأ تكثر ودية الآدمي كثيرة‏,‏ فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل‏,‏ والإعانة له تخفيفا عنه إذ كان معذورا في فعله‏,‏ وينفرد هو بالكفارة‏.‏

فصل‏:‏

ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين فإن عمر وعليا رضي الله عنهما‏,‏ جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفا واتبعهم على ذلك أهل العلم ولأنه مال يجب على سبيل المواساة‏,‏ فلم يجب حالا كالزكاة وكل دية تحملها العاقلة تجب مؤجلة لما ذكرنا‏,‏ وما لا تحمله العاقلة يجب حالا لأنه بدل متلف فلزم المتلف حالا‏,‏ كقيم المتلفات وفارق الذي تحمله العاقلة فإنه يجب مواساة فألزم التأجيل تخفيفا على متحمله وعدل به عن الأصل في التأجيل‏,‏ كما عدل به عن الأصل في إلزامه غير الجاني‏.‏

فصل‏:‏

ولا يلزم القاتل شيء من الدية وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ هو كواحد من العاقلة لأنها وجبت عليهم إعانة له فلا يزيدون عليه فيها ولنا‏,‏ ما روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏قضى بدية المرأة على عاقلتها‏)‏ متفق عليه وهذا يقتضي أنه قضى بجميعها عليهم‏,‏ ولأنه قاتل لم تلزمه الدية فلم يلزمه بعضها كما لو أمره الإمام بقتل رجل‏,‏ فقتله يعتقد أنه بحق فبان مظلوما ولأن الكفارة تلزم القاتل في ماله‏,‏ وذلك يعدل قسطه من الدية وأكثر منه فلا حاجة إلى إيجاب شيء من الدية عليه‏.‏

فصل‏:‏

والكفارة في مال القاتل لا يدخلها تحمل وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين‏:‏ تكون في بيت المال لأنها تكثر‏,‏ فإيجابها في ماله يجحف به ولنا أنها كفارة فلا تجب على غير من وجد منه سببها‏,‏ كسائر الكفارات وكما لو كانت صوما ولأن الكفارة شرعت للتكفير عن الجاني‏,‏ ولا يكفر عنه بفعل غيره ويفارق الدية فإنها إنما شرعت لجبر المحل‏,‏ وذلك يحصل بها كيفما كان ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قضى بالدية على العاقلة لم يكفر عن القاتلة وما ذكروه لا أصل له ولا يصح قياسه على الدية لوجوه أحدها‏,‏ أن الدية لم تجب في بيت المال لأنها إنما وجبت على العاقلة ولا يجوز أن يثبت حكم الفرع مخالفا لحكم الأصل الثاني‏:‏ أن الدية كثيرة فإيجابها على القاتل يجحف به‏,‏ والكفارة بخلافها الثالث‏:‏ أن الدية وجبت مواساة للقاتل وجعل حظ القاتل من الواجب الكفارة فإيجابها على غيره يقطع المواساة‏,‏ ويوجب على غير الجاني أكثر مما وجب عليه وهذا لا يجوز‏.‏

فصل‏:‏

وذكر أصحابنا أن الدية تغلظ بثلاثة أشياء إذا قتل في الحرم والشهور الحرم‏,‏ وإذا قتل محرما وقد نص أحمد -رحمه الله- على التغليظ على من قتل محرما في الحرم وفي الشهر الحرام‏,‏ فأما إن قتل ذا رحم محرم فقال أبو بكر‏:‏ تغلظ ديته وقال القاضي‏:‏ ظاهر كلام أحمد أنها لا تغلظ وقال أصحاب الشافعي‏:‏ تغلظ بالحرم‏,‏ والأشهر الحرم وذي الرحم المحرم وفي التغليظ بالإحرام وجهان وممن روى عنه التغليظ عثمان‏,‏ وابن عباس والسعيدان وعطاء‏,‏ وطاوس والشعبي ومجاهد‏,‏ وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وقتادة والأوزاعي‏,‏ ومالك والشافعي وإسحاق واختلف القائلون بالتغليظ في صفته فقال أصحابنا‏:‏ تغلظ‏,‏ لكل واحد من الحرمات ثلث الدية فإذا اجتمعت الحرمات الثلاث وجبت ديتان قال أحمد‏,‏ في رواية ابن منصور في من قتل محرما في الحرم وفي الشهر الحرام‏:‏ فعليه أربعة وعشرون ألفا وهذا قول التابعين القائلين بالتغليظ وقال أصحاب الشافعي‏:‏ صفة التغليظ‏,‏ إيجاب دية العمد في الخطأ لا غير ولا يتصور التغليظ في غير الخطأ ولا يجمع بين تغليظين وهذا قول مالك‏,‏ إلا أنه يغلظ في العمد فإذا قتل ذا رحم محرم عمدا فعليه ثلاثون حقة وثلاثون جذعة‏,‏ وأربعون خلفة وتغليظها في الذهب والورق أن ننظر قيمة أسنان الإبل غير مغلظة وقيمتها مغلظة‏,‏ ثم يحكم بزيادة ما بينهما كان قيمتها مخففة ستمائة وفي العمد ثمانمائة‏,‏ وذلك ثلث الدية المخففة وعند مالك تغلظ على الأب والأم والجد دون غيرهم واحتجا على صفة التغليظ بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه حين حذفه بالسيف ثلاثين حقة وثلاثين جذعة‏,‏ وأربعين خلفة ولم يزد عليه في العدد شيئا وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعا‏,‏ ولأن ما أوجب التغليظ أوجبه في الأسنان دون القدر كالضمان ولا يجمع بين تغليظين لأن ما أوجب التغليظ بالضمان إذا اجتمع سببان تداخلا‏,‏ كالحر والإحرام في قتل الصيد وعلى أنه لا يغلظ بالإحرام أن الشرع لم يرد بتغليظه واحتج أصحابنا بما روى ابن أبي نجيح‏,‏ أن امرأة وطئت في الطواف فقضى عثمان رضي الله عنه فيها بستة آلاف وألفين تغليظا للحرم وعن ابن عمر أنه قال‏:‏ من قتل في الحرم‏,‏ أو ذا رحم أو في الشهر الحرام فعليه دية وثلث وعن ابن عباس‏,‏ أن رجلا قتل رجلا في الشهر الحرام وفي البلد الحرام فقال‏:‏ ديته اثنا عشر ألفا وللشهر الحرام أربعة آلاف وللبلد الحرام أربعة آلاف وهذا مما يظهر وينتشر ولم ينكر‏,‏ فيثبت إجماعا وهذا فيه الجمع بين تغليظات ثلاث ولأنه قول التابعين القائلين بالتغليظ واحتجوا على التغليظ في العمد أنه إذا غلظ الخطأ مع العذر فيه ففي العمد مع عدم العذر أولى وكل من غلظ الدية أوجب التغليظ في بدل الطرف‏,‏ بهذه الأسباب لأن ما أوجب تغليظ دية النفس أوجب تغليظ دية الطرف كالعمد وظاهر كلام الخرقي أن الدية لا تغلظ بشيء من ذلك وهو قول الحسن‏,‏ والشعبي والنخعي وأبي حنيفة‏,‏ والجورجاني وابن المنذر وروي ذلك عن الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ‏(‏لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ في النفس المؤمنة مائة من الإبل‏)‏ لم يزد على ذلك ‏(‏ وعلى أهل الذهب ألف مثقال ‏)‏ وفي حديث أبي شريح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏وأنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل‏,‏ وأنا والله عاقله من قتل له قتيل بعد ذلك فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا‏,‏ وإن أحبوا أخذوا الدية‏)‏ وهذا القتل كان بمكة في حرم الله تعالى فلم يزد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الدية ولم يفرق بين الحرم وغيره‏,‏ وقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ يقتضي أن الدية واحدة في كل مكان وفي كل حال ولأن عمر رضي الله عنه أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه‏,‏ ولم يزد على مائة وروى الجوزجاني بإسناده عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز‏,‏ كان يجمع الفقهاء فكان مما أحيا من تلك السنن بقول فقهاء المدينة السبعة ونظرائهم أن ناسا كانوا يقولون‏:‏ إن الدية تغلظ في الشهر الحرام أربعة آلاف‏,‏ فتكون ستة عشر ألف درهم فألغى عمر -رحمه الله- ‏,‏ ذلك بقول الفقهاء وأثبتها اثنى عشر ألف درهم في الشهر الحرام والبلد الحرام‏,‏ وغيرهما قال ابن المنذر‏:‏ وليس بثابت ما روي عن الصحابة في هذا ولو صح فقول عمر يخالفه وقوله أولى من قول من خالفه وهو أصح في الرواية‏,‏ مع موافقته الكتاب والسنة والقياس‏.‏

فصل‏:‏

ولا تغلظ الدية بموضع غير الحرم وقال أصحاب الشافعي‏:‏ تغلظ الدية بالقتل في المدينة على قوله القديم لأنها مكان يحرم صيده فأشبهت الحرم وليس بصحيح لأنها ليست محلا للمناسك فأشبهت سائر البلدان‏,‏ ولا يصح قياسها على الحرم ‏(‏لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ أي بلد هذا‏؟‏ أليست البلدة الحرام‏؟‏ قال‏:‏ فإن دماءكم وأموالكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا‏,‏ في بلدكم هذا‏)‏ وهذا يدل على أنه أعظم البلاد حرمة وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إن أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ورجل قتل غير قاتله‏,‏ ورجل قتل بدخل الجاهلية‏)‏ وتحريم الصيد ليس هو العلة في التغليظ وإن كان من جملة المؤثر فقد خالف تحريمه تحريم الحرم فإنه لا يجب الجزاء على من قتل فيه صيدا ولا يحرم الرعي فيه‏,‏ ولا الاحتشاش منه ولا ما يحتاج إليه من الرحل والعارضة والقائمة وشبهه‏.‏